الخميس، 7 أغسطس 2014

استحواذ الشركات وموقف الفقه منه عبد المجيد بن صالح المنصور

استحواذ الشركات وموقف الفقه منه 
 
عبد المجيد بن صالح المنصور
المعهد العالي للقضاء

يعتبر الاندماج والاستحواذ طوق نجاة لتجنّب الإفلاس، ويعيش العالم حاليا أزمة طاحنة بدأت إرهاصاتها في صورة اضطراب للقطاع المالي العالمي، ثم امتدت إلى باقي القطاعات الأخرى، وأصبح العالم مهدداً بضغوط انكماشية حادة.

إن التداعيات السلبية للأزمة المالية جعلت من الضروري التفكير قدماً في حل ناجح يقي جميع المؤسسات وأموال المساهمين من أزمات مستقبلية، وينقذها من مغبة الإفلاس والتهاوي.

ولابد من الاستفادة القصوى من الأزمة المالية خاصة في الأسواق المالية، على أن تكون هذه الاستفادة من خلال توجيه جزء من الاستثمارات الخارجية وتوظيفها في السوق المحلي.
وأصبحت عمليات الاستحواذ بين الشركات أحد أبرز الخيارات المطروحة علي الساحة المالية العالمية والإقليمية والمحلية لمواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية التي أفرزت واقعاً يهدد الكثير من الكيانات الاقتصادية بالإفلاس أو التصفية.

قد يكون الاندماج أو الاستحواذ عاملاً أساسياً في تحويل المجموعات الكبرى من متعثرة إلى كيانات مليئة، خاصة وأن الاندماج أو الاستحواذ سيؤثر فيها بشكل إيجابي من خلال تجميع حزمة من الأصول التابعة تحت مظلة واحدة، الأمر الذي سيجعلها في عيون المؤسسات المالية والمصرفية مليئة، وهو الحال الذي تعمل عليه شركات كبرى في الوقت الحالي(1).

إن عمليات الاندماج والاستحواذ ما بين الشركات ليست ظاهرة جديدة، حيث هي نتيجة طبيعية للعولمة وانفتاح الأسواق، فكلما زادت حرية التجارة والانفتاح الاقتصادي ٍزادت عمليات الاندماج والاستحواذ، ولأن نجاح أي استثمار يعتمد على تحقيق فرص المنافسة والذي يحتاج بدوره إلى بيئة قانونية صالحة تحكم عمليات الاندماج والاستحواذ، وتتضمن العديد من الإجراءات والواجبات وتُرتب الحقوق التي تضمن تحقيق المساواة في الحصول على المعلومات ذات العلاقة وحماية المستثمرين الصغار منهم قبل الكبار، إضافة إلى ضبط عملية الإفصاح ليكون كاملاً وعادلاً ثم إتاحة الوقت الكافي للمستثمرين لاتخاذ القرار بالمساهمة(2).

وفيما يتعلق بالأسباب الباعثة للاستحواذ، فإن الشأن فيه لا يختلف كثيراً عن الأسباب الباعثة على الاندماج، ويمكن تلخيصها في الأسباب الآتية:

السبب الأول: هو رغبة الشركة المستحوذة دخول سوق جديدة، فإذا أرادت شركة ما أن تدخل سوقاً جديدة، فإن أول خيار أمامها هو البحث عن شركة تعمل في نفس مجالها، وتقوم بعملية الاستحواذ عليها، ومن ثم تكون قد دخلت السوق بأقصر الطرق، وإن زادت التكلفة عليها بعض الشيء، ولكن الشركات التي تتخذ هذه السياسة يكون ما تفكر فيه هو عملية دخول السوق المستهدفة بأسرع وقت، ولا تبالي إذا ارتفعت التكلفة من عدمه إذا كان اختيارها للشركة المستحوذ عليها مدروساً بدقة؛ لأن ذلك يضمن لها سوقاً جديدة، تستطيع من خلالها مضاعفة مبيعاتها، فضلاً إذا كانت هذه السوق تتميز بزيادة الطلب على منتجات هذه الشركة المستحوذة.

السبب الثاني: يتمثل في الاستفادة من اقتصاديات الحجم الكبير أو تخفيض التكلفة المصاحبة لإنتاج عدد أكبر من المنتجات أو الخدمات، وذلك من خلال خفض عدد العاملين الناتج عن دمج الأقسام المتماثلة على سبيل المثال.

السبب الثالث: قد يهدف الاستحواذ السيطرة على نصيب أكبر من مخرجات القطاع الذي تنتمي إليه كل من الشركتين طرفي الاستحواذ، ومن ثم زيادة قدرة كل من الطرفين على التأثير على اتجاهات الإنتاج والأسعار بالقطاع الذي ينتميان إليه، وعلى المنافسة ومواجهة المنافسة القوية بالسوق المحلي أو العالمي بزيادة منتجاتها أو إدخال منتجات جديدة لها لم تكن تنتجها من قبل.

السبب الرابع: كذلك، تهدف العديد من الشركات إلى ضمان استمرار تدفق مستلزمات الإنتاج والسيطرة على أسعارها؛ سعياً وراء التحكم في تكلفة الإنتاج، وذلك عن طريق الاستحواذ على شركات تمثل مخرجاتها النهائية مستلزمات أساسية لتشغيل الشركات المستحوذة.

السبب الخامس: هو رغبة الشركة المستحوذة في احتكار السوق وإقصاء المنافسين من أمامها لكي تنفرد بالسوق، وتكون تكلفة شراء هذا النوع من الشركات هو الأعلى تكلفة على الشركة المستحوذة؛ لأن الشركة المستحوذ عليها لابد أن يكون المبلغ المقدم لها مغرياً بالدرجة التي تؤدي إلى تنازلها عن السوق للشركة المستحوذة(3).

السبب السادس: تلجأ بعض الشركات الضعيفة والمتعثرة والمهددة بالإفلاس إلى طريقة الاستحواذ كحل للهروب من شبح الإفلاس ومن ثم التصفية، والهروب من مطالبات ودعاوى ذوي الحقوق، وحتى تقوي مركزها المالي بنقل موجوداتها إلى شركة أخرى، وتتخلص من التزاماتها التي أنهكتها، وتجعلها في ذمة الشركة المستحوذة عليها، وتصبح بذلك مليئة، الأمر الذي سيجعلها في عيون الدائنين أكثر قدرة على الوفاء بالتزاماتها.
وتلجأ بعض الشركات التي تحقق ربحاً عالياً من الاستحواذ على شركات صغيرة تعمل في ذات المجال تحقق خسائر أو ربحية متدنية من أجل تخفيض حجم الضرائب التي تدفعها سنويا.
يمثل الاستحواذ تنويعاً في الاستثمارات الذي يهدف إلى ضمان استمرار تحقيق الشركة المستحوذة لمعدلات نمو مستقرة في الأرباح، وتجنب التذبذب في الأرباح المحققة، ما يكسب المستثمرين طويلي الأجل الثقة في الشركة المستحوذة وفي إدارتها(4).

ولأهمية الاستحواذ كحل لتلافي الإفلاس فإن الحديث عنه في ستة مسائل:

المسألة الأولى: تعريف الاستحواذ.
المسألة الثانية: الفرق بين الاندماج والاستحواذ.
المسألة الثالثة: أنواع الاستحواذ.
المسألة الرابعة: أثر الاستحواذ على الشخصية الاعتبارية للشركة المستحوذ
ليها.
المسألة الخامسة: أثر الاستحواذ على ديون الشركة المستحوذ عليها.
المسألة السادسة: موقف الفقه من الاستحواذ.

المسألة الأولى: تعريف الاستحواذ:

الاستحواذ : عقد يتم بين شركتين, الأولى كبيرة وقوية, والثانية ضعيفة وأقل قوة, عن طريق سيطرة الأولى على الثانية من خلال شراء جميع أو 51% من أسهمها غير المسددة، أو عن طريق شراء أصولها، ونتيجة هذه العملية هي اختفاء الشركة المباعة, ونشاط أكبر للشركة المستحوذة(5).

وعرفه بعضهم بأنه: شراء شركة لأصول وموجودات شركة أخرى وانتقال ملكيتها إلى الشركة المستحوذة(6).

وقيل: هو شراء شركة لشركة أخرى وتكون الشركة المستحوذ عليها أصغر من المستحوذة، و هو أحد أشكال الاندماج، وتتبع الشركة المستحوذ عليها الشركة المستحوذة في كل تعاملاتها، وتمتلك المستحوذة كل أسهم الشركة المستحوذ عليها بنسبه 100 % من رأس مالها، وقيل: هو حصول أحد الشركات على كل أو غالبية الأسهم العادية لشركة أخرى (الأسهم التي لها حق التصويت)، إذا تمكنت الشركة المستثمرة من حيازة نسبة من أسهم الشركة الأخرى ( 51% مثلاً) تمكنها من السيطرة المالية والإدارية على أنشطتها، فتصبح الشركة المستثمرة شركة قابضة، بينما تصبح الشركة المراد الاستحواذ عليها شركة تابعة دون زوال الصفة القانونية لإحدى الشركتين، وبالتالي تقوم بإعداد قوائم مالية مستقلة، وفي الناحية العملية هما كيان اقتصادي واحد، الأمر الذي يتطلب أن يتم إعداد قوائم مالية موحدة لتوضيح التغيرات، ونتائج العمليات في المركز المالي للمجموعة، ككل بما تتضمنه من شركة قابضة و شركات تابعة(7).

وهناك تعريفات أخرى وكلها متقاربة تبين حقيقة الاستحواذ، وكيف يكون بين الشركات، ومن مجموعها يتبين أن للاستحواذ أربعة عناصر وأركان مهمة هي:

العنصر الأول: لابد من عقد على عملية الاستحواذ يتم بموجبه شراء، -وليس نقل- الأصول والموجودات للشركة المستحوذة، وكذلك نقل الالتزامات.

العنصر الثاني: أن تكون الشركة المستحوذة من الشركات الكبيرة أو الأقوى، وتكون الشركة المستحوذ عليها شركة أصغر وأضعف منها في المركز المالي.

العنصر الثالث: لابد لكي يتم الاستحواذ أن تشتري الشركة المستحوذة نسبة كبيرة من أصول الشركة المستحوذ عليها بشراء جميع أو 51% من أسهمها غير المسددة بحيث تمتلك قوة تصويتية غالبة في مجلس الإدارة.

العنصر الرابع: لابد بعد الاستحواذ من اختفاء الشركة المباعة المستحوذ عليها، حيث تكون الشركة المستحوذ عليها شركة (تابعة)، وتكون الشركة المستحوذة شركة (قابضة) تسيطر على كل أنشطتها وتعاملاتها، دون زوال صفتها الشخصية.



****************************
(1)
ينظر: موقع مجلة المدير المالي:
(2)
ينظر: مقال الاندماج والاستحواذ في موقع إيلاف، المحامي: عبد الرزاق عبد الله (3) ينظر: مقال (9 شركات كويتية أعلنت خلال 2009 رغبتها بالا « المزايا»الوحيدة التي أعلنت عدم المضي في اندماجها مع شركتها التابعة « دبي الأولى») منشور في موقع الرؤية للخدمات الإعلامية:
(4)
ينظر: مقال (9 شركات كويتية أعلنت خلال 2009 رغبتها بالا « المزايا»الوحيدة التي أعلنت عدم المضي في اندماجها مع شركتها التابعة « دبي الأولى») منشور في موقع الرؤية للخدمات الإعلامية:
(5)
ينظر: منتدى الإمارات الاقتصادي
(6)
ينظر: ينظر: موقع مجلة المدير المالي:
(7)
ينظر: موقع محاسبة دوت نت:
ومن أشهر الأمثلة للاستحواذ في الوقع، ما كان سوف يحدث بين شركتي مايكروسوفت وياهو عندما عرضت مايكروسوفت شراء ياهو، ولم تقبل ياهو حينها؛ لأن العرض المقدم لم يعجبها، ومن عالم السيارات: شركة شيفروليه استحوذت على شركة دايو، ومن عالم الموبايلات: شركة HTC استحوذت على شركة Dopod، ومن عالم الكومبيوتر والالكترونيات: شركة Lenovo استحوذت على شركة IBM، ومن عالم الصناعات الغذائية: شركة المراعي تستحوذ على 75 % من أسهم شركة طيبة للاستثمار والصناعات الغذائية المتطورة الأردنية عن طريق شركة المراعي القابضة ذ.م.م، إحدى الشركات المملوكة للمراعي بنسبة 100 في المائة، مع احتفاظ المالك السابق السادة عائلة خليل، بالحصة المتبقية، ما نسبته 25 في المائة.


المسألة الثانية: الفرق بين الاندماج والاستحواذ:
أحياناً يستخدم تعبيري الدمج والاستحواذ كمترادفين في العديد من الدراسات، ويرجع ذلك إلى أن كل واحد منهما يعرف على أنه أداة للاستفادة من التوسع في النشاط الرئيسي لشركة ما، أو زيادة درجة تنافسية شركة ما، أو خفض تكاليف تشغيل الشركة من أجل زيادة كفاءة تشغيل الشركة الدامجة أو المستحوذة، وزيادة معدلات الربحية فيها، وذلك من خلال محاولة السيطرة على شركة أخرى تعمل في ذات النشاط أو في نشاط مكمل سواء من خلال الشراء لنسبة مسيطرة وحاكمة من الأسهم المكونة لرأس المال قد تصل إلى كامل الأسهم المكونة لرأس مال الشركة المستحوذ عليها (الاستحواذ). أو من خلال ضم أو دمج شركة أخرى بالكامل في الشركة الدامجة (الاندماج).
ويتمثل الفرق بين الاندماج والاستحواذ بالنظر إليهما من جانبين، الأول: من الجانب القانوني للشركة، والثاني: الجانب العملي:
الجانب الأول: من الجانب القانوني: يتمثل في مدى استمرار أو انتهاء الكيان القانوني للشركة المندمجة أو المستحوذ عليها، بمعنى أن الاستحواذ يعنى شراء نسبة حاكمة ومسيطرة قد تصل إلى 100 % من أسهم الشركة المستحوذ عليها مع بقاء الشخصية المعنوية (الكيان القانوني) للشركة المستحوذ عليها كما هو دون تأثير، وتقوم بعملياتها بالشكل المعتاد، ومن ثم يمكن للشركة المستحوذة إعادة بيع ما امتلكته من أسهم في الشركة المستحوذ عليها مرة أخرى لمستثمرين آخرين في حالة الرغبة في ذلك.
أما الاندماج فانه يعني -كما سبق في الفصل السابق- انتهاء الشخصية الاعتبارية (الكيان القانوني) للشركة المندمجة وإلغاء قيدها كاسم تجارى منفصل في السجل التجاري للشركات، بمعنى ذوبان الكيان القانوني للشركة المندمجة في الكيان القانوني للشركة الدامجة، وقد ينتج عن الاندماج ذوبان الكيان القانوني لكل من الشركة الدامجة والشركة المندمجة وظهور كيان قانوني جديد (اسم تجارى جديد)، أي اندماج شركتين من أجل إنشاء شركة جديدة تحت اسم جديد بذات الموجودات والمطلوبات الخاصة بكل من الشركتين الدامجة والمندمجة.
الجانب الثاني: من الجانب العملي: أنه غالباً ما يكون الاستحواذ عملاً عدائياً أي يتم من جانب الشركة المستحوذة دون رضاء أو موافقة الإدارة في الشركة المستحوذ عليها، وقد ينتج عنه تغيير في إدارة الشركة المستحوذ عليها، وفقا لرغبة الشركة المستحوذة المسيطرة على أسهم التصويت في الشركة المستحوذ عليها، وغالباً ما يتم نقل ملكية أسهمها إلى مساهمي الشركة المستحوذة، إما عن طريق الدفع النقدي أو عن طريق سندات دين، وبذلك تتمكن الشركة المستحوذة من السيطرة على الأصول الثابتة للشركة المستحوذ عليها وموجوداتها ومطلوباتها، أما الاندماج فعادة يتم بالاتفاق بين إدارتي كل من الشركة الدامجة والمندمجة وبموافقة الجمعية العامة لكل منهما؛ نظراً لما يمثله الاندماج من مصلحة مشتركة لكلا الطرفين، ويحتفظ المساهمون في الشركتين بأسهمهم في الكيان الجديد، أو في الشركة الدامجة، وبالتالي يتحولون إلى مساهمين في الشركة الجديدة (8).
ويرى بعض الاقتصاديين( 9) أن الفرق بين الدمج والاستحواذ في أن خيار الاستحواذ يعتبر أحياناً مرحلة تمهيدية لعملية الدمج لتلاشي الإجراءات الكثيرة الخاصة بعملية الدمج(10 )، وتلتزم الشركة المستحوذة بالتطوير والحفاظ على العمالة، وتقوم بالهيكلة الإدارية والمالية تمهيداً للوصول إلى مرحلة الاندماج بين الشركتين، ووقتها سوف تنتهي الشخصية الاعتبارية للشركة المستحوذ عليها التي اندمجت بعد ذلك.
المسألة الثالثة: أنواع الاستحواذ:
يتنوع الاستحواذ إلى نوعين باعتبارين، باعتبار نوع المشترَى، وباعتبار كميته.
النوع الأول: باعتبار نوع المشترى، وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: استحواذ عن طريق شراء الأسهم: ويقصد به قيام الشركة المستحوذة بشراء أسهم الشركة المستحوذ عليها من خلال عرض شراء يقدم لمساهمي الشركة المستحوذ عليها، وسداد قيمة هذه الأسهم نقدا، أو مبادلتها بأسهم في الشركة المستحوذة يحصل عليها مساهمو الشركة المستحوذ عليها.
القسم الثاني: استحواذ عن طريق شراء الأصول: ويقصد به قيام الشركة المستحوذة بشراء كامل أصول الشركة المستحوذ عليها نقدا، حيث تقوم الشركة المستحوذ على أصولها بتوزيع مقابل الأصول المستحوذ عليها على مساهميها، وذلك تمهيداً لتصفية الشركة المستحوذ عليها، أو أن تستخدم الشركة المستحوذ على أصولها مقابل الأصول في تغيير نشاطها الرئيسي( 11).
النوع الثاني: أقسام الاستحواذ باعتبار كميته، وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: استحواذ كلي بشراء جميع أصول الشركة المستحوذ عليها.
القسم الثاني: استحواذ جزئي بامتلاك جزء من أسهم تلك الشركة، وغالبا ما تتطلع الشركات المستحوذة (المشترية) عند الشراء الجزئي، إلى أن تكون كمية الأسهم المستحوذ عليها 51% فأكثر بحيث تمتلك قوة تصويتية غالبة في مجلس الإدارة، وتمكنها من التحكم في قرارات مجلس الإدارة للشركة، أو المشاركة الفعالة في إصدارها، وتسمى الأسهم في هذه الحالة أسهماً إستراتيجية(12 ).
المسألة الرابعة: أثر الاستحواذ على الشخصية الاعتبارية للشركة المستحوذ عليها:
إن أهم عناصر الاستحواذ بقسميه، وأهم ما يميزه عن الاندماج بقاء شخصية الشركة المستحوذ عليها، كما هي دون تأثير، فلا تنقضي أو تنحل بالاستحواذ كما هو الشأن في كل شركة تابعة، إلا إذا كان الاستحواذ مرحلة تمهيدية للاندماج، فتنقضي بالاندماج لا بالاستحواذ.
 وبناء على هذا يمكن للشركة المستحوذة إعادة بيع ما امتلكته من أسهم في الشركة المستحوذ عليها مرة أخرى لمستثمرين آخرين في حالة الرغبة في ذلك.

المسألة الخامسة: أثر الاستحواذ على ديون الشركة المستحوذ عليها.
إن من أهم أسباب سعي بعض الشركات للاستحواذ تخفيف مسؤوليتها من الديون والالتزامات التي أحاطت بها، ولهذا فإن من طبيعة الاستحواذ أنه يتضمن التزام الشركة المستحوذة بضمان أموال الدائنين والعاملين في الشركة المستحوذة، فالشأن في هذه الميزة كالشأن في الاندماج، وهي من نقاط التوافق بين الاستحواذ والاندماج.
فيترتب على الاستحواذ نقل المسؤولية عن الديون من الشركة المستحوذ عليها، التي أصبحت شركة تابعة إلى الشركة المستحوذة التي أصبحت شركة قابضة بامتلاكها نسبة كبيرة من أسهم أو أصول الشركة المستحوذ عليها.
المسألة السادسة: موقف الفقه من الاستحواذ:
لئن كان الاندماج والاستحواذ يتفقان في كثير من البواعث والعناصر وبعض الآثار، فإنه لا يعني ذلك بالضرورة الاتفاق في التكييف الفقهي من كل وجه، وبإمعان النظر في الاستحواذ بقسميه من الناحية القانونية، وملاحظة بعض خصائصه وعناصره، تجد أنه مركب من تكييفين فقهيين، عقد بيع وعقد حوالة دين على الشركة المستحوذة، وبيانهما كتالي:
عقد بيع باعتبار أن الشركة المستحوذ عليها تبيع حصة كبيرة من أسهمها، أو تبيع كل أصولها، والشركة المستحوذة هي المشترية للأسهم؛ لأنها تقدم للمساهمين عرضاً لشرائها، وتسدد قيمتها نقداً، أو بمبادلتها بأسهم في الشركة المستحوذة يحصل عليها مساهمو الشركة المستحوذ عليها.
وهذا التكييف لا يصح في الاندماج؛ لأن الاندماج نقل للأصول والموجودات ليكون رأس مال في شركة جديدة أو شركة قائمة مع زوال شخصية الشركة المندمجة، وليس فيها بيعاً أو شراء لأصول أو أسهم كما هي الحال في الاستحواذ.
وعقد حوالة باعتبار أن جميع ديون الشركة المستحوذ عليها والتزاماتها تنقل إلى الشركة المستحوذة، وهذا النقل هو ما يسمى في الفقه بحوالة الدين، ويحتمل أن يكون كفالة بشرط براءة الأصيل، فالشركة المستحوذة هي الكفيلة المتحملة لديون الشركة المستحوذ عليها بشرط براءة الشركة المستحوذ عليها، وهي الأصيل، وقد يؤيد هذا أن العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، ويقول فقهاء الحنفية تطبيقًا لهذه القاعدة: ( إن الكفالة بشرط براءة الأصل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءة الأصل كفالة)( 13)، وهي جائزة عندهم، وقد أخذ به مجمع الفقه الإسلامي( )،والمجلس الشرعي لهيئة المحاسبة في معيار الحوالة(14 )
ويلحظ في خلاصة التكييف أن الاستحواذ بنوعيه يمكن أن تكون صورته عقد بيع بشرط نقل الديون والالتزامات التي على البائع إلى المشتري، ولا إشكال فيه وقد رضي الدائنون (المحال) بذلك، ورضيت الشركة المحال عليها بالحوالة، ولا يدخل في نهي النبي e، عن (سلف وبيع)؛ لأن المراد بالسلف هنا القرض أي: لا يحل بيع مع شرط قرض بأن يقول بعتك هذا العبد على أن تسلفني ألفا، وقيل: هو أن تقرضه ثم تبيع منه شيئا بأكثر من قيمته، فإنه حرام؛ لأنه إنما يقرضه ليحابيه في الثمن، فيدخل في حد الجهالة، ولأن كل قرض جر منفعة فهو ربا( 15)، وفي مسألة الاستحواذ إسقاط لدين الشركة المستحوذ عليها(وهي البائع)، وليس فيه شغل لذمتها كما في سلف وبيع، ولأن الحوالة كما يقول ابن تيمية رحمه الله( 16) من جنس إيفاء الحق لا من جنس البيع، فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي في ذمة المحيل، والله أعلم.
 *********
 (8) ينظر: مقال (9 شركات كويتية أعلنت خلال 2009 رغبتها بالا « المزايا»الوحيدة التي أعلنت عدم المضي في اندماجها مع شركتها التابعة « دبي الأولى») منشور في موقع الرؤية للخدمات الإعلامية: http://www.arrouiah.com/node/234502
وينظر: موقع منتدى الإمارات الاقتصادي على الرابط:http://www.uaeec.com/vb/t140757.html
وينظر: موقع مجلة المدير المالي: http://financialmanager.wordpress.com/2010/02/03/rp/
وينظر: موقع دليل المحاسبين: http://www.jps-dir.net/Forum/forum_posts.asp?TID=5663
وينظر: مقال الاندماج والاستحواذ في موقع إيلاف، المحامي:عبد الرزاق عبد الله http://www.elaph.com/ElaphWeb/Economics/2007/10/275478.htm
(9) ومنهم الدكتورة سميحة القليوبي، ينظر: منتديات المجموعة المصرية للخدمات المالية
http://forum1.esgmarkets.com/showthread.php?t=3819&page=70
(10) وهذا ما حصل عندما استحوذ بنك مصر على بنك القاهرة في ظل الأزمة المالية المعاصرة.
([1]) ينظر: مقال (9 شركات كويتية أعلنت خلال 2009 رغبتها بالا « المزايا»الوحيدة التي أعلنت عدم المضي في اندماجها مع شركتها التابعة « دبي الأولى») منشور في موقع الرؤية للخدمات الإعلامية: http://www.arrouiah.com/node/234502
(11)  ينظر: منتدى الإمارات الاقتصادي http://www.uaeec.com/vb/t140757.html
(12) ([1]) ينظر: تبيين الحقائق(4/153)، البحر الرائق(6/239).
(13) قرار المجمع 84 (1/9) بشأن: تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة، ونص ما جاء فيه: (ثانياً: بشأن الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة: أ- الحوالات التي تقدم مبالغها بعملة ما ويرغب طالبها تحويلها بنفس العملة جائزة شرعاً، سواء أكان بدون مقابل أم بمقابل في حدود الأجر الفعلي، فإذا كانت بدون مقابل فهي من قبيل الحوالة المطلقة عند من لم يشترط مديونية المحال إليه، وهم الحنفية، وهي عند غيرهم سفتجة، وهي إعطاء شخص مالاً لآخر لتوفيته للمعطي أو لوكيله في بلد آخر . وإذا كانت بمقابل، فهي وكالة بأجر، وإذا كان القائمون بتنفيذ الحوالات يعملون لعموم الناس، فإنَّهم ضامنون للمبالغ، جرياً على تضمين الأجير المشترك).
(14) معيار الحوالة (5/1/2): (الحوالة المطلقة: هي التي لا يكون فيها للمحيل دين أو عين لدى المحال عليه، حيث يلتزم بأداء دين المحيل من مال نفسه، ثم يرجع بعد ذلك بما دفعه على المحيل إذا كانت الحوالة بأمره. وهي جائزة شرعاً).
(15) ينظر: مجموع الفتاوى(29/334)، و(29/62)، إعلام الموقعين(3/141).
(16)ينظر: مجموع الفتاوى(20/512)، إعلام الموقعين(2/10).



مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية الأستاذ الدكتور/ رمضان محمد بطيخ

مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية

الأستاذ الدكتور/ رمضان محمد بطيخ
أستاذ ورئيس قسم القانون العام بكلية الحقوق
جامعة عين شمس - مصــر
        تتعدد فى الواقع أعمال السلطة التنفيذية وهى ما يقال لها أعمال الإدارة les actes de P’administration. وهذه الأعمال رغم تعددها لا تخرج عن أن تكون إما أعمالا قانونية actes juridiques تتم سواء بإرادة منفردة وهى القرارات الإدارية اللائحية والفردية وتهدف إلى أحداث تغيير فى المراكز القانونية القائمة، أو تتم بتقابل أو توافق إرادتين وهى العقود الإدارية، وإما أن تكون أعمالا مادية actes matérelles، تتم فى شكل وقائع أو حوادث مثل قيام أحد رجال البوليس بالاعتداء بالضرب على أحد الأفراد، أو قيام عامل البريد بإصابة شخص بالسيارة الحكومية التى يقودها، أو قيام جهة الإدارة ببناء مصنع أو خزان مياه.... فمثل هذه الأعمال وكما هـــــو واضـــح ليس من شأنها أن تعدل فى المراكز القانونية القائمة للأفراد.
        فإذا ما استبعدنا من هذا المجال الأعمال التى تتم بتوافق إرادتين وهى العقود الإدارية، وما قد يترتب عليها من مسئولية يقال لها المسئولية العقدية حيث تفرد لها مؤلفات مستقلة وتحكمها قواعد موضوعية غالبا ما تدرس فى مؤلفات القانون الإدارى ضمن موضوعات نشاط الإدارة العامة، إذا استبعدنا ذلك، فإن كافة أعمال السلطة التنفيذية أو كافة أعمال الإدارة الأخرى هى التى تندرج فى إطار البحث الذى نحن بصدده، والخاص بمدى مسئولية الدولة عنها أو كما يقال لها عادة المسئولية غير العقدية. وهذه هى التى يتناولها الفقهاء سواء فى فرنسا أم فى مصر فى إطار مؤلفات الرقابة القضائية على أعمال الإدارة.
        والمسئولية غير العقدية على هذا النحو تنطوى على نوعين من المسئولية: المسئولية عن القرارات الإدارية، الفردية منها واللائحية، والمسئولية عن الأعمال المادية. فما هى القاعدة المستقرة فى هذا الشأن؟ هل هى مسئولية الدولة عن هذه الأعمال؟ أم أن القاعدة هى عدم المسئولية عنها؟
        على عكس مدى مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التشريعية سواء فى فرنسا أم فى مصر، والسلطة القضائية على الأقل فى مصر، حيث القاعدة السائدة والمستقرة وهى عدم مسئولية الدولة عن أعمال هاتين السلطتين، فإن القاعدة السائدة والمستقرة فى خصوص مدى المسئولية عن أعمال السلطة التنفيذية بالتحديد السابق، أى المسئولية غير العقدية. هى مسئولية الدولة عن هذه الأعمال.
        مع ملاحظة أن مسئولية الدولة عن أعمالها المادية وقراراتها الإدارية على هذا النحو لم تكن مبدأ مسلما به منذ البداية، حيث كانت القاعدة من قبل هى عدم المسئولية، إلا أنه نظرا لتطور الحياة وتدخل الدولة فى مختلف المجالات الفردية، وزيادة المرافق العامة، ومن ثم زيادة اتصال الأفراد بهذه المرافق، إضافة إلى أن أعمال السلطة التنفيذية تختلف عن أعمال كل من السلطتين التشريعية والقضائية حيث لا تحاط بالضمانات الكافية لصالح الأفراد(1)، فقد كان من نتيجة ذلك أن امتدت الرقابة القضائية لتشمل كافة هذه الأعمال سواء بإلغائها إذا كانت مخالفة لمبدأ المشروعية أو بتقرير التعويض عن آثارها الضارة، أو بالأمرين معا؛ وبالتالى فقد أصبحت القاعدة هى مسئولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية غير التعاقدية.
        بل وبعد أن كانت تطبق على هذه المسئولية قواعد القانون المدنى، أصبحت تطبق الآن، ومنذ صدور حكم مجلس الدولة الفرنسى الشهير "بلانكو" Blanco عام 1873، قواعد خاصة تتلاءم مع طبيعة المنازعات الإدارية، وتختلف من ثم بحسب حاجات المرافق العامة وضرورة التوفيق بين حقوق الدولة ومصالح الأفراد.
        هذا وتجدر الإشارة إلى أن القضاء الإدارى كان يتشدد فى بداية الأمر فى شروط المسئولية الإدارية، مراعاة للصالح العام، وحتى لا يشل عمل جهة الإدارة، ولذلك كان يتطلب لقيام هذه المسئولية ليس فقط ضرورة أن يكون هناك خطأ، وإنما يجب أن يكون هذا الخطأ جسيما. ولكن مع تطور المبادئ  الديمقراطية وبالأخص مبدأ المساواة بين المواطنين أمام الأعباء العامة، بدأ هذا القضاء يخفف من حدة تلك الشروط، بل وبدأ يوازن بين اعتبارات الصالح العام واعتبارات العدالة فى تعويض الأفراد عما يصيبهم من أضرار نتيجة ممارسة النشاط الإدارى.
        من هنا فقد أقام المسئولية فى هذه الحالة ليس على أساس الخطأ وإنما على أساس المخاطر le risqué  أو تحمل التبعة، والتى تعنى أن مسئولية الإدارة عن أعمالها غير التعاقدية تقوم بمجرد حدوث ضرر سببه إحدى هذه الأعمال حتى ولو كان هذا العمل مشروعا أو غير خاطئ كم سنرى فيما بعد. ويكون القضاء الإدارى بذلك قد أقام هذه المسئولية على ركنى الضرر وعلاقة السببية بين هذا الضرر وبين تصرفات الإدارة فقط.
        وإذا كان مبدأ مسئولية الدولة عن جميع أعمالها غير التعاقدية أصبح خارج نطاق كل جدل أو نقاش، مما يعنى أنه يتحتم على جهة الإدارة أن تقوم بتعويض الأفراد عن الأضرار التى تصيبهم من جراء تلك الأعمال سواء أكان ذلك على أساس فكرة الخطأ أم على أساس فكرة المخاطر أو تحمل التبعة؛ إلا أن هناك استثناء خطيرا يرد على هذا المبدأ، استثناء ممقونا من قبل معظم رجال الفقه لا فرق فى ذلك بين فقه القانون العام أم فقه القانون الخاص ألا وهو الاستثناء الخاص بأعمال السيادة. تلك الأعمال التى تمثل سمة لطائفة من التصرفات التى تباشرها السلطة التنفيذية. ولا تخضع فى خصوصها لأية رقابة قضائية سواء من جانب القضاء العادى أو من جانب القضاء الإدارى. فهذه الأعمال لا تكون فى الواقع محلا لإلغاء أو تعويض أو وقف تنفيذ أو فحص مشروعية – ومن ثم يقف القضاء أمامها عاجزا، معلنا فقط عدم اختصاصه بنظرها حتى ولو كانت تمس حقوق الأفراد وحرياتهم.
        هذا وقد تعددت المعايير التى قيل بها لتمييز تلك الأعمال؛ فقد قيل مثلا بمعيار الباعث السياسى، وطبقا له يعتبر العمل الذى تتخذه السلطة التنفيذية من أعمال السيادة إذا كان الباعث عليه، أو الدافع إليه سياسيا. ومعيار طبيعة العمل الذاتية والذى مؤداه أنه يجب النظر – لتحديد طبيعة أعمال السيادة – إلى العمل فى ذاته أو فى موضوعه دون اعتداد بالدافع أو الباعث عليه. كما قيل بمعيار العمل المشترك أو الأعمال المختلطة، وطبقا له أعمال السيادة هى الأعمال التى تأتيها السلطة التنفيذية بمناسبة علاقتها بسلطة أخرى لا تخضع لرقابة القضاء الإدارى، وأخيراً فقد قيل بمعيار القائمة القضائية وهى المعيار المعتمد الآن فى مختلف دول العالم، ويقصد به أن أعمال السيادة هى تلك الأعمال التى يضفى عليها القضاء هذه الصفة، فالمرجع إذن فى هذا المعيار – لتحديد ما إذا كان العمل من أعمال السيادة أم من الأعمال الإدارية - هو القضاء. فالقاضى يظل – والحال هكذا – هو سيد الموقف. بمعنى أنه هو وحده الذى يملك وصف العمل المطعون فيه بأنه من أعمال السيادة أو أنه ليس كذلك، وأنه عمل معدوم أو أنه ليس كذلك. وهكذا يستطيع أن يضيق من دائرة أعمال السيادة التى لا يختص بنظرها وأن يوسع فيها. أما المشرع فلا يملك حتى بقانون أن يصف عملا ما تصدره السلطة التنفيذية بأنه من أعمال السيادة(1).
        وعلى أية حال وأيا كان المعيار المعتمد فى هذا الشأن، فإن نظرية أعمال السيادة، ومهما قيل فى شأنها من أنها نقطة سوداء فى جبين المشروعية، أو أنها تمثل ثغرة خطيرة فى  جسد الديمقراطية، فهى نظرية قائمة ولا يمكن إنكارها، كما لا تخضع جهات الإدارة فى خصوصها للرقابة القضائية سواء لرقابة الإلغاء فى حالة مخالفة مبدأ المشروعية أم لرقابة التعويض لجبر ما يترتب عليها للمواطنين من ضرر، الأمر الذى يعنى حرمان هؤلاء المواطنين من أهم ضمانة فعالة لحماية حقوقهم وحرياتهم التى تمسها تلك النظرية.
        ولكن هل هناك من مبررات لعدم مسئولية الدولة عن أعمال السيادة؟
        يصعب فى واقع الأمر إنكار وجود نظرية أعمال السيادة مادام أن المشرع سواء فى مصر أو فى غيرها من الدول الأخرى قد اعترف بها وقررها بنصوص صريحة لا يمكن التغاضى عنها. ولذا دأب كثير من رجال الفقه على البحث عن مبررات لعدم مسئولية الدولة عن تعويض الأضرار الناجمة عن هذه الأعمال، بل وعلى البحث عن مبررات لعدم خضوعها كلية للرقابة القضائية بحيث يستحيل إلغاء تلك الأعمال أو التعويض عنها، فى حين ذهب جانب آخر من الفقه إلى محاولة إخضاعها لقضاء التعويض دون الإلغاء باعتبار أن ذلك يمثل أخف الضررين.
        وعلى ذلك نتناول فى فرعين مستقلين الموضوعين التاليين:
        الموضوع الأول: المبررات التى قيل بها لاستبعاد أعمال السيادة من مجال الإلغاء والتعويض.
        الموضوع الثانى: المبررات التى قيل بها للتعويض عن أعمال السيادة دون إلغائها.
الفرع الأول
المبررات التى قيل بها لاستبعاد أعمال السيادة
عن مجال الإلغاء والتعويض
        هناك فى الواقع مبررات قيل بها لاستبعاد أعمال السيادة من مجال التعويض تتمثل فى الآتى(1):
        أولا: أن أعمال السيادة إنما وجدت كأداة للتصالح بين كل من السلطتين القضائية والتنفيذية، بحيث يباح لهذه السلطة الأخيرة أن تأتى هذه الأعمال ولا تصبح مسئولة عنها، فى مقابل الحفاظ على بقاء واستمرار مجلس الدولة. فقد ذكرنا من قبل أن مجلس الدولة الفرنسى وعلى أثر الإطاحة بإمبراطورية نابليون وعودة الملكية عام 1814، عمل من جانبه على مهادنة الحكومة ومحاولة استرضائها حتى يتجنب الغدر من جانبها، ويحافظ على بقائه كثمرة من ثمار نابليون. من هنا فقد اتبع سياسة قضائية مرنة تمثلت فى تنازله عن رقابة طائفة من أعمال السلطة التنفيذية، هى ما يقال لها أعمال السيادة، مقابل أن يراقب بقية الأعمال الأخرى. وهكذا اعتبرت أعمال السيادة بمثابة الفدية التى افتدى بها مجلس الدولة بقاءه من ناحية، ومباشرته لباقى اختصاصاته الرقابية من ناحية أخرى.
        كما هو واضح تجسد هذه الحجة المرحلة التاريخية التى ظهرت فيها نظرية أعمال السيادة، والتى لا يمكن أن تكون مبررا حقيقيا لعدم التعويض عن الأضرار التى تسببها للمواطنين، ذلك أن مجلس الدولة الفرنسى لم يعد الآن فى حاجة إلى مهادنة الحكومة بعد أن قويت شوكته واستقام عوده واستقر وضعه، بل لا نبالغ إذا قلنا أن الحكومة تخشى الآن مجلس الدولة وتعمل دائما على مهادنته والتقرب منه بعد أن أصبح حاميا حقيقيا لحقوق الأفراد وحرياتهم. إضافة إلى أن فكرة التصالح بين السلطتين التنفيذية والقضائية ينبغى ألا تكون على حساب الأفراد وذلك بحرمانهم من تعويض الأضرار التى تتسبب فيها بعض أعمال السلطة التنفيذية.
        ثانيا: من المبررات التى قيل بها فى هذا المجال أيضا، أن أعمال السيادة، إنما تعد من قبيل الأعمال السياسية التى تباشرها الدولة، والأعمال السياسية لا يجب أن تكون محلا لمخاصمات قضائية، ومن ثم يجب ألا تراقب إلا من قبل هيئة سياسية مثل البرلمان. ومعنى ذلك أن أعمال السيادة بصفتها أعمالاً سياسية لا تخضع ولا يجب أن تخضع لرقابة القضاء الإدارى بما تتطلبه هذه الرقابة من إعادة تقدير وتقييم للوقائع وما ترمى إليه من أغراض وأهداف؛ خاصة أن مسألة التمييز بين ما يعتبر من الأعمال السياسية وتلك التى يعتبر من الأعمال الإدارية، تعد مسألة سياسية لا يصلح القضاء لتحديدها.
        فى الواقع من الأمر لا تصلح هذه الحجة مبررا لعدم التعويض عن أعمال السيادة، إذ ليس هناك ما يمنع من تقرير هذا التعويض دون إعادة تقدير وتقييم لوقائع تلك الأعمال، وذلك فى حالة ما إذا كان مبنى أو أساس هذا التعويض فكرة المخاطر أو تحمل التبعة، إذ فى هذه الحالة يكتفى فقط بأن يتبين أن هناك ضررا أصاب المواطنين، وأن سبب هذا الضرر عمل من أعمال السيادة. وهكذا يمكن القول فى مثل هذه الحالة أن القضاء – عند إقراره للتعويض عن أعمال السيادة – لا يتعرض لتلك الأعمال فى ذاتها. وإنما فقط لما تحدثه من ضرر للمواطنين؛ فهو لا يتدخل فى الواقع فى مضمونها وفحواها أو فى مدى سلامتها أو عدم سلامتها.
        ثالثا: كما قيل أيضا كمبرر لعدم إلغاء أعمال السيادة أو التعويض عنها أن سلامة الدولة فوق القانون، وبما أن القانون وسيلة لا غاية، وسيلة للمحافظة على سلامة الدولة وبقاء كيانها، فإنه يجب الاعتراف للحكام بالخروج على القانون كلما اقتضت الظروف ذلك، مادام فى هذا الخروج تحقيقا للغاية التى وجد القانون لتحقيقها وهى سلامة الدولة.
        وهذا التبرير لا يكفى فى واقع الأمر لمنع التعويض عن أعمال السيادة، إذ المطلوب هو تعويض الأضرار المترتبة على هذه الأعمال لما فى ذلك من تحقيق لصالح الأفراد الذين أضيروا من جراء تلك الأعمال ولا علاقة لذلك بالحفاظ على سلامة الدولة، فهذا أمر آخر لا يؤثر فيه دفع مثل هذا التعويض.
        رابعا: وأخيرا برر البعض عدم التعويض عن أعمال السيادة استناداً إلى نص المادة رقم 26 من قانون مجلس الدولة الفرنسى الصادر بتاريخ 24 مايو 1872، ونص المادة 47 من قانون 3 مارس 1849 التى تقرر حق الوزراء فى أن يحيلوا القضايا التى تخرج من اختصاص مجلس الدولة إلى محكمة التنازع. فقد ذهبوا فى تفسيرهم لهذا النص بأن المقصود بالقضايا التى لا تدخل فى اختصاص مجلس الدولة هى أعمال السيادة ويمكن أن تدخل ضمن ذلك أيضا النصوص التى تحرم التعويض، لأعمال السيادة فى القانون المصرى(نص المادة رقم 17 من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972، ونص المادة11 من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972)(1).
        بداءة هذا التبرير ليس محل اتفاق بين الفقهاء حيث يرى البعض منهم أن النص المذكور لا يقصد به أعمال السيادة، وإنما يقصد به تحقيق التوازن بين جهتى القضاء العادى والإدارى. ومن ناحية أخرى فإن نصوص القانون وحدها لا تعتبر سندا حقيقيا لتبرير عدم المسئولية عن أعمال السيادة. إذ أن تعديل هذه النصوص أمر ممكن وجائز طالما أن طبيعة العلاقة لا تتنافى مع هذا التعديل(2).


الفرع الثانى
المبررات التى قيل بها للتعويض عن أعمال السيادة دون إلغائها
        أمام التسليم بقيام وجود نظرية أعمال السيادة كواقع فعلى وقانونى فى كافة المجتمعات تقريبا، وأمام التسليم كذلك بضرورة تحصين مثل هذه الأعمال ضد رقابة الإلغاء، لما فى هذه الرقابة من إمكانية مناقشة هذه الأعمال وفحصها وتقدير مدى سلامتها من عدمه، وهو ما يتنافى مع مصالح الدولة العليا، فقد طالب كثير من رجال الفقه بأن يكون البديل الأمثل لذلك هو تعويض الأفراد عن الأضرار التى تصيبهم من جرائها، بمعنى أنه طالما يستحيل إنكار أعمال السيادة، وكما يستحيل كذلك إلغاؤها، فلا أقل من إباحة دعوى التعويض للمواطنين فى خصوصها. فالذى يهم الحكومة أولا وقبل كل شىء هو بقاء أعمال السيادة دون إلغائها فما الذى يضيرها إذن من تعويض الأفراد الذين نالهم ضرر من جرائها. بل وتأكيدا لعدم المساس بأعمال السيادة فى ذاتها سواء من ناحية الحكم على مسلك الإدارة حيالها، أى من ناحية فحص مشروعيتها لمعرفة ما إذا كانت الدولة قد أخطأت فى خصوصها أم لم تخطيء ، أم من ناحية مدى ملاءمتها، يقرر الفقه أن أساس التعويض فى هذه الحالة ليس هو فكرة الخطأ، وإنما فكرة المخاطر أو تحمل التبعة. تلك الفكرة التى تعنى – كما ذكرنا – أن مساواة الجميع أمام التكاليف والأعباء العامة تحتم أن ينال المضرور تعويضا عما يصيبه من ضرر من جراء تلك الأعمال، والتى يجب أن يتحمل نتائجها وتبعاتها كافة أفراد المجتمع، إذ لا يعقل أن من يصاب بضرر نتيجة تصرف لجهة الإدارة، تهدف من ورائه تحقيق الصالح العام أو صالح المجموع، أن يتحمل بمفرده نتائج هذا التصرف، بل يجب أن يشاركه الجميع فى تحمل تلك النتائج.
        وهذا هو ما انتهى إليه كبار فقهاء القانون العام فى فرنسا من أمثال "هوريو" Hauriou الذى نادى بضرورة التعويض عن أعمال السيادة فى حالة ما إذا ترتب على هذه الأعمال نزع ملكية خاصة، و"جيز" Jéze الذى ذهب مذهبا آخر، إذ نادى بضرورة التعويض عن كافة أعمال السيادة سواء ترتب عليها نزع ملكية خاصة من عدمه، مع استبعاد كل طعن بالإلغاء فى هذه الأعمال؛ و"دويز" Duez الذى يرى أنه ليس هناك نص فى تشريع، أو هناك مبدأ من  المبادئ  العامة للقانون يمنع من تعويض الأفراد عن الأضرار التى تحيق بهم بسبب أعمال السيادة، بل أن مثل هذا التعويض – يضيف الفقيه الكبير- إنما هو ما يتفق مع مبادئ  العدالة والتى تحتم ضرورة المساواة بين المواطنين أمام التكاليف والأعباء العامة، وإن كان قد اشترط  لذلك أن يكون الضرر فى هذه الحالة ذا طابع مادى ومباشر وغير عادى وخاص(1).
        وهكذا يمكن التوفيق – من خلال ما انتهى إليه الفقه – بين ضرورة عدم التعرض لأعمال السيادة بالإلغاء وإنما فقط بالتعويض عن تلك الأعمال على أساس فكرة المساواة أمام التكاليف أو الأعباء العامة وهو ما يقال له فكرة المخاطر وتحمل التبعة، وبين الحماية اللازمة لتحصين أعمال السيادة أو أعمال الحكومة ضد تقدير القاضى لها وفحصه لمدى مشروعيتها، إذ يكتفى فى هذه الحالة فقط بمجرد التحقق من توافر ركن الضرر وعلاقة السببية بينه وبين عمل السيادة أو عمل الحكومة.





(1)  ققد ذهب جانب من الفقه – بحق – إلى القول فى هذا الخصوص بأنه إذا كان فى تصور رقابة التعويض بالنسبة لأعمال السلطتين التشريعية والقضائية مساس بإحدى الضمانات الهامة للأفراد، إلا أن هذا المساس من حيث الواقع أقل خطورة على الأفراد من تصور تلك الرقابة بالنسبة لبعض الأعمال الإدارية. فالسلطة التشريعية يفترض فيها أنها ممثلة لأفراد الشعب، فإرادتها التى تظهر فى وضع قواعد عامة تعتبر هى إرادة الأفراد أنفسهم، فضلا عن أن القضاء فى كثير من الدول يراقب القوانين الصادرة عنها، ويبحث فى مدى دستوريتها، ليمتنع عن تطبيقها، إذا كانت مخالفة لأحكام الدستور أو يلغيها. وكذلك الأمر بالنسبة لأعمال السلطة القضائية إذ المفروض أنها تطبق القانون، فضلا عن وجود درجات للتقاضى، مما يحقق للأفراد كثيراً من الضمانات، أما بالنسبة لأعمال السلطة التنفيذية ، فالأمر على خلاف ذلك، فليست إرادتها هى إرادة الشعب ، فضلا عن أنه لا تتوافر لها الضمانات التى تتوافر فى أعمال السلطة القضائية، ولذلك كان من الطبيعى أن تمتد الرقابة القضائية إلى أعمالها سواء بتقرير التعويض عن آثارها الضارة بالأفراد أو بإلغائها إذا كانت مخالفة للقانون.
      الدكتور/ رمزى الشاعر، المرجع السابق (القضاء الإدارى)، ص 32، 33.
(1)  الدكتور/ عبد الفتاح حسن، المرجع السابق، ص 62 ومابعدها.
(1)  حول هذه المبررات انظر:
      نظرية أعمال السيادة للدكتور/ عبد الفتاح ساير داير، دكتوراه ، جامعة القاهرة، عام 1954 ، ص 215 ومابعدها؛ أمال السيادة فى القانون المصرى والمقارن للدكتور/ حافظ هريدى، دكتوراه، جامعة القاهرة، الطبعة الأولى، 1952، ص 233 ومابعدها، المرجع السابق للدكتور/ وحيد رأفت، ص 172 ومابعدها؛ مسئولية الدولة غير التعاقدية، الدكتور/ أنور رسلان، القاهرة، 1982، ص 132 ومابعدها؛ الرقابة على أعمال الإدا ة، الدكتور/ كامل ليلة، بيروت، 1970، ص 675 ومابعدها؛ قضاء التعويض، للدكتور/ رمزى الشاعر، المرجع السابق، ص 414 ومابعدها.
(1)  الدكتور/ رمزى الشاعر، القضاء الإدارى، قضاء التعويض، مرجع سبق ذكره، ص 216.
(2)  الدكتور/ أنور سلامة، وسيط القضاء الإدارى، مرجع سبق ذكره، ص 663.
(1)  وردت كافة هذه الآراء وتفصيلاتها برسالة الدكتور/ عبد الفتاح ساير داير، سبقت الإشارة إليها، ص 255 ومابعدها.