الثلاثاء، 25 فبراير 2014

رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية

 

رسالة المحاماة   بقلم‏ :‏ رجائي عطية المحامي
المحاماة ــ بغض النظر عن المسمي الإصطلاحي ــ هي نيابة عن الغير في حمايته أو الدفاع عنه‏,‏ قوامها الحجة والبيان والإقناع‏,‏ لدي متلق ما أو متلقين‏,‏ في دائرة ما‏..‏ في مكان وزمان ما‏..‏ وهي بذلك فرع علي أصل عام عرفته البشرية منذ كانت‏..‏ نجد هذه النيابة في أقاصيص وروايات وحكاوي البشر‏,‏ ونجدها في صفحات التاريخ مثلما نجدها في كتب ومدونات الأديان‏..‏ هذه النيابة الإنسانية فيما بين الناس بعضهم وبعضا‏,‏ تؤدي بقدرات خاصة في المختار لهذه النيابة‏,‏ تؤهله للإختيار من ناحية‏,‏ وترشحه للنجاح في مهمته من ناحية أخري‏..‏
لذلك كان معني الغير حاضرا علي الدوام في المحاماة وفي كل نيابة صادقة ينوب بها الآدمي عن سواه‏,‏ إلا الأنبياء وأصحاب الرسالات فإن معني الغير هو كل الموجود في صفحة وعيهم حيث تذوب ذواتهم ذوبانا كاملا وتتلاشي في المعني الكلي وفي إتجاههم التام إلي الله‏!‏

الكلمة هي روح وعدة ومهجة وسلاح المحاماة‏..‏ هذه الكلمة ليست محض حروف أو صيغ أو تراكيب‏,‏ وإنما هي حجة وبرهان وبيان‏..‏ ريادة الكلمة قاسم مشترك في رسائل الرسل ودعوات الأنبياء‏,‏ وفي مؤلفات الحكماء والمفكرين والعلماء‏,‏ وفي ممارسات الصحافة وكتابات الصحفيين‏,‏ وفي كتابة المقالات والبحوث‏,‏ وفي قرض الشعر وصياغة الأعمال الأدبية‏,‏ وفي مدونات أحكام القضاء‏,‏ وفي مصنفات الإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما‏,‏ وفيما يتغني به المغنون والشعراء والمنشدون‏,‏ وفيما يلقيه الخطباء والدعاة‏,‏ بل فيما يتحدث به الناس في حواراتهم وشئون معاشهم وحياتهم‏,‏ كلنا شركاء في إستعمال الكلمة‏,‏ تختلف درجات إتقانها وصناعتها وسبكها وصياغتها‏,‏ وتصل إلي أوجها السامق حين تتغيا الإرتفاع بالتعبير بها لتؤدي وظيفتها في التواصل الإنساني وإنارة الألباب والعقول‏.‏
ويحق لأي آدمي يتقن صناعة الكلمة‏,‏ ويربطها بالفعل والسلوك ــ أن يفاخر بأنه أديب أو شاعر أو صحفي أو كاتب أو مؤلف أو حكيم أو روائي‏,‏ وأن يباهي الدنيا بأنه من صناع الكلمة الموهوبين في نحتها وتراكبيها ومعرفة أسرار معانيها وإيماءاتها وجرسها ومعمارها‏,‏ المتمكنين في التوليف وسبك مترادفاتها في صياغة تجلي المعني وتحفظ الجرس وتستقر شحنتها في وجدان المتلقي‏..‏ بيد أن فروسية الكلمة تجاوز ذلك كله وتتخطاه‏,‏ وتستوجب تحلي صانع الكلمة ــ فوق ذلك ــ بشمائل وخصال وسجايا الفروسية‏..‏ والفروسية ليست محض إمتطاء جواد‏,‏ ولكنها شجاعة‏,‏ وبسالة‏,‏ وإقدام‏,‏ ومروءة‏,‏ وشهامة‏,‏ ونجدة‏,‏ وصدق‏,‏ وعزم‏,‏ ومضاء‏,‏ وبذل‏,‏ وفداء‏..‏ قالوا في الأمثال ليس كل من ركب الحصان خيال‏..‏ كذلك الكلمة‏,‏ فهي ليست محض ظاهرة صوتيه أو قدرة بيانية‏,‏ وإنما هي موصولة ويجب أن تكون موصولة بغاية وهدف‏,‏ لا تتردد أو تحجم عن إبداء ما يستوجبه تخوفا أو توجسا أو جبنا أو أحتياطا أو اتقاء أو طلبا للأمان الشخصي‏!!..‏ لذلك كانت خاصية الفروسية ميزة لا تتحقق لصانع الكلمة ما لم يتحل بأخلاق الفروسية وتقترن كلمته وحجته بهذه الباقة التي يخلق بها الفرسان‏..‏

لذلك فإن فروسية الكلمة لا تتحقق مالم تكن التزاما بقضية ومبدأ‏,‏ ومالم تكن تعبيرا عن حاصل واقع وقائم في وجدان وحنايا ملقيها‏,‏ مقرونا باستعداد للبذل والنضال والكفاح من أجل تحقيق معانيها‏:‏ في عالم الواقع لا في عالم الخيال‏,‏ في عالم الفعل لا في عالم التفاخر والتباهي والتيه بالكلمات بغض النظر عن قيمتها وما تترجم عنه في عالم الواقع والفعل والعمل والسلوك‏..‏ لم يكن الانبياء والرسل فرسانا للكلمة لمجرد ان حملوا بها الأمانة وألقوها للناس‏,‏ وإنما لانهم صدقوا وكابدوا في حمل ما حملوه من أمانات‏..‏ ولم يكن نبي القرآن فارسا للكلمة ـ لمجرد انه قال‏:‏ انا النبي لاكذب‏,‏ أنا ابن عبد المطلب ـ ولا لمجرد انه قال لعمه ابي طالب في شأن كبار قريش الذين جاءوا يساومونه علي دينه ويعرضون عليه العروض ليصرف النظر عما يدعو اليه‏,‏ فقال‏:‏ والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الامر حتي يظهره الله أو أهلك دونه ـ ماتركته‏!..‏ ولم يكن عليه السلام فارسا للكلمة لمجرد ان ختم دعاءه الشهير بالطائف قائلا في مناجاته لربه‏:‏ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي‏!..‏ وإنما كان نبي القرآن فارسا للكلمة لانه كان يعني ما يقول‏,‏ ولأنه ترجم الكلمات الي واقع احتمل فيه العذاب والتنكيل والإساءة والإهانة والايذاء‏..‏ جاهد ما وسعته وفوق ما تسعه طاقة أشداء المجاهدين‏,‏ واحتمل جمرات قذائف وطعنات الكفار والمشركين‏,‏ ولم يضق بما كان فيه من مكابدة ونصب‏,‏ بل مضي لاداء رسالته يحول الكلمات الي واقع غير وجه الحياة وحمل النور والضياء الي الانسانية عبر المكان والزمان‏!!‏ لا تفترق المحاماة عن أداتها وهي الكلمة‏,‏ في انها يمكن ان تعلو وأن تهبط‏,‏ تصيب وتخيب‏,‏ تستقيم وتجنح‏,‏ تطفو وتغرق‏..‏ كانت الكلمة هي أداة الرسالات والنبوات ومادة الكتب السماوية‏,‏ مثلما هي عدة المؤلفات والمصنفات والكتب والاسفار‏,‏ وصائغة الفكر الانساني منذ فجر التاريخ الي ما شاء الله‏..‏ لم يزر احد بالكلمة ولا بدورها الهائل العظيم لمجرد هبوط او جنوح في استخدام الكلمة في غير اغراضها السامية‏..‏ لم تفقد الكلمة قيمتها لانها اداة الشاتم او القاذف او المسف‏,‏ ولا لانها عدة التزييف والمزيفين والمضلين والمرائين‏,‏ ولا لكونها مجالا للخداع والغش والمخاتلة والنصب والضلال والتدليس‏..‏ هذه كلها وغيرها عيوب استعمال وممارسة وليست عيبا في الكلمة ذاتها‏..‏ ستبقي الكلمة هي هي حاملة أغلي أفكار الانسانية‏,‏ وهي هي مادة الكتب السماوية والبيان المعجز في آيات القرآن المجيد‏!‏

والمحاماة التي تتغياها هذه الكلمات‏,‏ هي المحاماة كما هي وكما يجب ان تكون‏!‏ فليست المحاماة جنوح جانح أو خطأ مخالف أو شرود شارد‏,‏ وإنما هي رسالة الحق ونصيره وصوته‏..‏ ترتفع بالكلمة لتكون حياة تدافع وتدرأ بها الشرور والمظالم‏,‏ وتصد التغول والجبروت والطغيان‏!‏




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق